قمة جدة: ثوابت قديمة لبناء مستقبل المنطقة
نشر في : 24 مايو, 2023 09:35 صباحاً

رام الله - قلم الرصاص يعمل أفضل من القلم الضوئي في الفضاء الخارجي. وهذا لا يعني أننا نستخدم نفس نوعية قلم الرصاص الذي كتب به أفلاطون رائعته المدينة الفاضلة؛ إلا أننا نقر أن الاستخدام السلمي للرصاص هو المستقبل الذي نبحث عنه.
المصالحة عنوان هذه المرحلة: جاءت تهرول مع نهائيات كأس العالم لكرة القدم في دوحة العرب العاصمة القطرية، وما صاحبها من مصالحة قطرية سعودية وإنهاء حالة التفتت الخليجي دون أن يعني تغير كبير بالمفاهيم العامة للسياسة الإقليمية، إلا أن رفع العلم الفلسطيني كان الانتصار الحقيقي للشعوب العربية وأحرار العالم، ففي دوحة العرب تحولت ليالي المونديال لمظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، علم فلسطين كان يرفع في أيادي الجماهير العربية بل أنه نزل إلى ساحة المعلب بتحدي حقيقي لكل قواعد الفيفا، يومها وصلت الرسالة واضحة من الجماهير العربية لقيادتها: فلسطين قضيتنا المركزية.
وبعدها جاء شي جين بينغ يزف لرياض العروبة أن النغمات الشرقية تدعو للسلام الهادئ، بعيداً عن صغب موسيقى الراب الأمريكية، حفظ الكثيرون اسم الرئيس الصيني على أنه شي؟ وما هذا الشي الذي يتحدى الغرب؟ حتى أن بعضهم قال أن المعلقة الأمريكية أكثر ثباتاً من عودان الأكل الصينيين Chopstick. لكن العود الواحد قد يصبح سارية علم والعودان لهما معنى التعاون والتكامل، وأصبح شائعاً أن نأكل بأعواد ملونة عندما تكون المناسبة تدلل على التعاون الصيني العربي، التي أنتجت الكثير من الأمور الإيجابية، بل أن العرب كل العرب لا يتوقعون أن تنشب حرباً صينية عربية، بل أن العرب يعشقون النظر نحو الشرق الحالم بالسلام، ومن المنهل الصيني سال نهر السلام السعودي الإيراني، وهو أهم انجاز ممكن أن يسجل للصينيين. تيار نهر السلام أمواجه هادئة إلى أنها قوية تزيل كل عقبات الزمن الماضي، ينظر لها البعض بتشنج مدعياً: أن العشر سنوات الماضية كانت دموية، وأن تحقيق السلام يتطلب أولاً محاسبة المجرمين، وهنا يختلف العرب في تحديد من المجرم ومن الضحية رغم إقرار الجميع أن هناك جريمة قد وقعت.
وحده قلم الرصاص الذي سجل عدالة المدينة الفاضلة، عدالة القوي الحكيم. قال أفلاطون: سيبقى الذئب يأكل خراف الراعي الكسلان، وسوف تحطم الأمواج السفن الهرمة، فالعدالة بلا قوة هي مثل مضغ اللحم بفم يخلو من الأسنان، وأن أغلب الرعاة لا يأكلون خراف أسيادهم، حتى لا يفقدوا أسنانهم، وهم الذين يقلعون أسنان الذئاب إذا هاجمت قطعانهم. وحدها القوة العدالة تصنع الحضارة، عدالة يقتنع بها التابعين أنه من العدالة أن يخرسوا وينفذوا ما يطلب السادة الأقوياء، من أجل تحقيق السلام.
صوت الصواريخ التي يطرب لها الرعاة لأنها تعني أنهم ينفذوا أوامر السادة الأقوياء لم يعد شعار المرحلة المقبلة، فالرياح الصينية بات عطرها سعودي، التي حافظت على ثبات حقيقي في تجديد علاقاتها دون أن تتخلى عن رؤيتها القديمة، فهي تبحث عن إعادة المنطقة عشرين سنة للوراء، إلى أيام سقوط بغداد، ذلك الحدث المفصلي الذي نقل المنطقة لمرحلة من تفتيت الذاتي، فتكونت تنظيمات مسلحة، ودمرت مدن العرب، وهرب أكثر من عشرين مليون عربي نحو مناطق آمنة، وأصبحت المنطقة العربية الأكثر شراء للسلاح في العالم، حتى باتت أشعار عشاق العرب دموية الدموع.
من كان يبحث في قمة جدة عن روائح البارود ومسح الجوخ والاستجداء فلن يجد ما يصبوا له، أنها تحول عميق في السياسة العربية، تحول قد تحسبه صفري بلا مكسب آني، فهو يعيدنا للوراء، وكأننا في شيخوختنا نحلم بركوب المراجيح، في براءة الحلم العربي الطفولي، حلم أن تعود مدننا آمنة، وأن نعود للجلوس معاً، نسمع بعضنا البعض، نفهم أننا مهما اختلفنا فإننا نعيش في بلاد يقال أنها مستقلة، لكنها مرعية من دول أقوى منها، تصرف عليها خبزاً وبارود، وهي التي تحدد متى نقاتل بعضنا البعض ومتى نتقاسم رغيف الخبز.
وحده تشارلز ثيبوت تنبأ بمصالحة سعودية إيرانية في كتابه: غرب متلاشي في الشرق الأوسط: التاريخ الحديث للتعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا في المنطقة. كتب أن سحب القوات الأمريكية من المنطقة سيساعد على خفض التوتر، وسيعمل على رفع كفاءة الدبلوماسية السعودية؛ تلك الدبلوماسية التي توزان ما بين حماية المصالح الروسية والتمسك بتفوق النفوذ الأمريكي بالمنطقة، وأن العرب عندما يقتربوا من إيران لن يبتعدوا عن تركيا، ولن يصبحوا أكثر عداء لإسرائيل، بل أن العرب هم الضحايا والمجرمين وهم أصل الجريمة التي يعيشون.
هي فوضى العدالة التي ذكرها باتريك كوكبيرن في كتابه خلف أكاذيب العدو: الحرب والأخبار والفوضى في الشرق الأوسط: لا يوجد مجرم متبجح ولا ضحية مستسلمة، عند العرب الموت يعد بطولة، والاحتفال بالمقتول يفوق الاحتفال بالقاتل، هي أمة تبحث عن الجنة ولا تعرف طريق لها سوى أن تموت فداءً للعدالة. كل الإعلام العربي يطبل ويزمر بانتصارات المقاومة التي لم تقتل عدوها لكن دماءها تجري على الأرض دليلاً على صمود المقاومة. مشاريع تغيير الدين عند العرب مثل هوس الغرب في تغيير جنسهم إلى مخنثين، فلا يبقى بالعدالة إلا الفوضى، فوضى تؤكد أن الجميع سيموت، والجميع سيدخل الجنة، وأن الله سيسامح جميع، وستقام العدالة الإلهية على أنقاض الأجساد المرهقة، فطول زمن القتال يعلم الأعداء المتخاصمين أن يسامحوا بالمجرمين من أجل أن تنتهي الجريمة.
عند محمد حمشي – في كتابه مدخل إلى نظرية التعقد في العلاقات الدولية يطرح فكرة أن الاقتناع بالفكرة أساسها تحقيقها المصلحة، وأن المصلحة تفترض الصعود الحضاري وأن الحروب لا تشكل صعود حضاري ما لم تحقق مكسب بضم الأراضي، أو تطور في الصناعة العسكرية والتقدم العلمي، إذن نحن اقنعنا أنه يجب أن نقاتل وأننا لم نحقق صعود حضاري موازي لما حققه خصومنا السياسيين ولا حتى باقي أقطاب المنطقة، إذن فإننا لم نصعد حضارياُ، فكان من الطبيعي أن تعود الأفكار السياسية القديمة لأنها تشكل القاسم المشترك بين كل العرب، وأن بعدها اختلف العرب، وأسقطت الفتن العربية معامل الرفع الحضاري في أتون معارك تقتل الجميع وتهزم الجميع.
المستقبل لا يحمل الأماني الوردية للدول الصغيرة، بل أن عليها أن تقوم بوعي من الاستفادة من التغيرات الإقليمية، فالباب مفتوح لمصلحات داخلية بموافقة سعودية إيرانية، فالمعيقات الحقيقية للخلافات الداخلية العربية قد بات وراء ظهورنا، والمرحلة القادمة تتطلب جرأة أكبر في الاستفادة من العدالة القوية التي ستحكم المنطقة، وأن الدور التركي سيكون داعم لهذا السلام الإقليمي. إيران التي تم تجريمها في إعلام بعض العرب، بالمقابل تم تجريم السعودية في إعلام بعض العرب الآخرين، الآن لم يعد هناك أموال تضخ من أجل الردح وتكفير الآخر، وعلى الرغم أن بعض القنوات مازالت تبث سموم الفتن، إلا أنها ستتوقف إن كانت تريد حماية مصادر تمويلها.
ما أتوقعه سوف تعرض مصلحات داخلية في عدة دول عربية، وفي بعضها الآخر سوف تفرض المصالحات، ومن يأبى أن ينصاع فسوف يفقد أسنانه ويكتب بقلم الرصاص وصيته قبل أن يقوم بعملية انتحارية ينهي وجوده ويخلد عناده. وحدها إسرائيل الخاسر من هذه المعادلة بالمنظور القريب، وستجد نفسها على طاولة المفاوضات قريباُ.