عصر بائس من حياة "الميت"!
نشر في : 22 يناير, 2023 10:21 صباحاً

البحر الميت-جميل ضبابات-توجد سلسلة من الجبال الصخرية في المنطقة. وفي الصباح الباكر عندما اشرقت الشمس، كانت تبدو أكبر وأقرب وأكثر اشعاعا واحمرارا من إشراقها في أي مكان آخر.

مثل هذا المشهد يتكرر عند أدنى نقطة على سطح الأرض، وذات مرة في التاريخ القريب كانت أمواج  بحرية يحتوي كل لتر ماء منها على 340 غراما من الملح ترتطم بتلك الجبال.

أعلى تلك المنحدرات التي ما زال الملح عالقا بالصخور منذ عشرات السنين حتى اليوم تقع مدن الضفة الغربية، وأمامها من ناحية الشرق تقعرت الأرض، وتكون "الميت"، وعاش منذ ملايين السنين.

من هنا هبط خلال السنوات الماضية فريق فلسطيني مرات عديدة لهدف، هو رصد ما يجري في محيط البحر الميت.

كان الفريق الذي قاده عماد الأطرش وهو بيئي يرأس جمعية الحياة البرية الفلسطينية، يتعامل مع نوع جديد وخطر من الطرق المنحدرة الصعبة التي تقود إلى أدنى نقطة على سطح العالم.

هناك عليهم التعامل مع بيئة بحرية مغلقة آخذة بالتغير يوميا بشكل دراماتيكي.

وفي كل مرة يتوقف القادمون من الأعلى، الى جانب صخرة هي الأشهر في تلك الجبال لارتباطها بتشكيل خارطة الطبوغرافية الفلسطينية في فترة الحرب العالمية الأولى.

في ذلك الوقت (الحرب العالمية الأولى) وصل الطبوغرافيون الإنجليز الذين كانوا يعملون ضمن ما سمي "صندوق اكتشاف فلسطين"، المعروف اختصارا بـ PEF إلى هذا المكان، ونقشوا رمز مؤسستهم في وجه صخرة يميل لونها إلى الحمرة الباهتة، وجعلوه مؤشرا لقياس مستوى سطح البحر الميت في سعيهم آنذاك لتحديد مستوى الماء.

تقع الصخرة مقابل الساحل الغربي للبحر الميت على بعد عدة كيلومترات من أطراف مدينة أريحا الجنوبية، ولم يكن العثور عليها عند أطراف الصحراء سهلا، فالصخور المنحوتة بفعل عوامل التغير عبر ملايين السنين تتشابه إلى حد بعيد.

المكان هادئ إلا من بعض الطيور الجارحة المحلقة التي تستفيد من التيارات الهوائية الدافئة في التحليق دون جهد فوق شاطئ البحر الغربي، وفي طريق موزا، وهي أدنى طريق في العالم تسير مركبة تبرز من نافذتها امرأة مسنة كأنها تكتشف المكان لأول مرة.

وفي بيئة تتأثر بعوامل التعرية والتقلبات الطبيعية صمد ذلك النقش طويلا، وبالنظر اليوم الى عمق ومساحة البحر من أمام تلك الصخرة، يبدو الأمر دراما سوداء كبيرة.

ومن السهل نسبيا بالعين المجردة تخمين ماذا حدث؟

إذا كان نظر الذي يحاول رؤية اول البحر سليما فإنه سيرى البحر بعيدا عن مكانه الذي كان فيه قبل سنوات.

او قد يحتاج الى اجهزة رؤية للتحقق من بعد الشاطئ.

فالبحر انحسر وابتعد كثيرا عن الصخور بنحو عدة كيلومترات نحو الشرق، وعمقه اصبح اقل بعشرات الأمتار من تلك العلامة.

ويمكن تفسير الضجيج العالمي الحالي حول مصير "الميت" بالوقوف أمام الصخرة وإلقاء النظر على بحر فريد يحتضر.

في الأعلى على قمة الجبل الذي تقع عند اسفله الصخرة، تمنح الإطلالة على البحر الميت من اعلى مرتفعات صخرية عالية تطل على شاطئه الغربي، رؤية واضحة لمدى استجابة أخفض نقطة على سطح البحر الميت لتدخل البشر والطبيعة معا.

فالتغييرات الآن واضحة أكثر من أي وقت مضى، فالبحر العجيب ينحسر بشكل واضح ومساحته تتضاءل وعمقه يقل سنة بعد سنة.

ان ما كانت تقيسه بريطانيا العظمى في الماضي بنقش في الصخور السفلية لهذه المرتفعات أصبح الفلسطينيون وغيرهم من الزوار الاجانب يقيسونه بالنظر والإحساس اليومي.

وتلك قصة فرحان الرشايدة وهو شاب فلسطيني في أواسط الثلاثينات من عمره يقف منذ عشرين عاما شاهدا على ما يجري في البحر الميت أكثر المسطحات المائية غرابة.

تعود القصة إلى عام 2000، منذ ذلك الوقت، لم يتوقف فرحان الرشايدة الذي يعمل في تنظيم رحل سياحة هدفها النهائي مشاهدة اللحظات الأولى من شروق الشمس فوق البحر.

مباشرة، يقع البحر أسفل الجبال التي يأخذ الرشايدة إليها مجموعات سياحية ليلا ليشاهدوا صباحا شروق الشمس وهو مشهد لا يتكرر في جغرافية الكرة الارضية الا هنا.

وهذه نقطة مضيئة واحدة في مشهد الظلام الذي يغلف البحر، فما زال بإمكان الفلسطينيين رؤية البحر من بعيد، رغم منع إسرائيل لهم من الاقتراب من شواطئه أو الاستفادة من كنوزه الطبيعة.

في السنوات الاخيرة، أصبح البحر مختلفا بالنسبة للرشايدة.

"عاد الى الوراء" قال الرشايدة.

إنها الاجابات التي يمكن سماعها على لسان الناس العاديين والخبراء الذين يعتمدون على مراقبة الأقمار الصناعية للبحر.

كان الوقت صباحا، ومجال الرؤية مقيد بالأبخرة الصاعدة، لكن مع مرور الوقت ظهرت الحقيقة الصعبة كما هي؛ بدا الانحسار واضحا في أطراف البحر الشمالية وهي الأقرب للتجمعات الفلسطينية.

كلا الرجلين الرشايدة والاطرش لا يتوقف عن مراقبة انحسار المياه من منطقة عالية.

ويسري في كلامها تشاؤم عميق حيال مصير البحر.

"اذا فقدنا البحر فقدنا حياتنا. سيصبح هذا المكان مهجورا" قال الرشايدة.

بكثير من التشاؤم والصورة الجوية والانفوجراف المصممة لرصد التغييرات على هذا المسطح المائي، يظهر الجفاف يسيطر على أطراف البحر.

بالنسبة للمراقبين والمختصين الفلسطينيين فإن الوقت الحرج يقترب، وتحول البحر الى بركة ملح كبيرة ليس إلا مسألة وقت.

يضع الأطرش عقودا قليلة لتلاشي البحر بشكله الحالي، " ويخبر مراسل "وفا" أن الأمر لن يكون قريبا جدا لكنه قد يحدث في منتصف القرن الحالي.

يردد المعنى ذاته اخرون بتشاؤم اقل، واخرون يأملون بتجدد دورة الطبيعة لإحياء البحر.

إن بعض السياح الأجانب يمكنهم التجول بقرب صخرة القياس لدقائق قليلة جدا مستعينين اما بروايات دينية قديمة أو شغف استشراقي، وبذلك تكون انتهت رحلتهم بدون مقدرتهم على وصول الماء بسبب خطر الوقوع في بلاعات تظهر بشكل فجائي في الأرض التي تركها البحر وراءه عندما انحسر تاركا الصخرة الشهيرة وحفرا جديدة تمتد أمامها.

قال أحد السياح وكان يجلس على مقعد ضمن مقاعد بيضاء كثيرة وضعت على طرف البحر الشمالي" قبل 27 عاما زرت مناطق كثيرة حول شاطئ البحر. هذا العام عدت كان المكان مختلفا. اختفت الكثير من المناطق التي كانت ذات يوم مناطق للاستراحة والمنتجعات (..) يمكن ان تتخيل ان هذا كابوسا في نهاية فيلم".

إن كثيرين هنا يعطون لمحة قاتمة عن المستقبل القريب الذي يمكن أن تشهده الأجيال القادمة.

الى الجنوب عدة كيلومترات، في المناطق التي تعزل اسرائيل وراءها الضفة الغربية، كان هذا المكان الذي يطلق عليه عين جدي في يوم من الايام مكانا للاستجمام.

لكنه الآن مجرد ماض جميل.

انه مكان تعرض للانهيار والخراب بعدما هبطت الأرض وما عليها من شوارع ومنشآت خلفها، وراءه البحر المنحسر مع إحساس عميق بأن زلزالا ضرب المنطقة.

ظهر سطح الارض وقد تفسخ وتكونت فيه شقوق كبيرة فقد بدا تناثر بعض مكونات البنية التحتية وأجزاء من الأشجار بعد سنوات من تلك الانهيارات كأن صاروخا ضربها.

إن المشهد هنا يظهر كم هو التغيير في طبوغرافية المنطقة مروع وسريع، وبالنسبة لماضي المنطقة القريب، لم يكن هذا محسوبا لكل من تواجد هنا، اما المستقبل فهو ليس واعدا كما يراه الاطرش دون أن تتدخل الدول بسياسات جديرة بأن تحول دون نهاية حتمية للبحر.

في تحديث مثير للانتباه ، نشرته وكالة ناسا في 16 آذار 2020 وأمكن استطلاعه على موقع الوكالة، ظهر الجزء الجنوبي من البحر بشكل منفصل عن الشمالي… في الواقع كان الانفصال حدث في وقت سابق من تاريخ تلك الصور.

عندما التقطت تلك الصورة في الرابع من الشهر نفسه من ارتفاع 263 ميلا في الفضاء، ظهرت الأراضي الواقعة عند أطراف البحر تجف وتتشقق وتظهر فيها بلاعات كبيرة خلفت دمارا كبيرا في البنية التحتية.

لقد تراجع البحر في التاريخ المنظور من نحو 1000 كم2 الى اقل من نصف هذه المساحة، كما تشير أوراق حقائق متعددة.

بالنسبة لكثير من الفلسطينيين فلا يحتاجون الى تلك الأقمار الصناعية لرصد ما يجري فهم يعتمدون كما الرشايدة على مراقبة البحر بأعينهم من اعلى الجبال، او عبر مدينة اريحا.

في الماضي القريب، قبل عقود قليلة كان بعض سكان أريحا يزورون البحر لقضاء وقت للترفيه والاستمتاع بالمياه المالحة، لكنهم اليوم يواجهون معضلتين: القيود الإسرائيلية من ناحية وابتعاد البحر يوما بعد يوم عن أطراف مدينتهم.

ينخفض مستوى سطح البحر سنويا وبشكل تؤكده مؤسسات البحث الكبرى في العالم، وهناك سببان رئيسان: الأول الاستهلاك المتواصل للماء من ناحية الأردن وهي من أكثر الدول التي تعاني من أزمات مياه، ومن ناحية اسرائيل التي تستهلك أيضا حصة الفلسطينيين بقوة الاحتلال، والثاني التغير المناخي، وبالتحديد هذا خلق نقاشا واسعا بين علماء المسطحات المائية عن المسؤول الأول عن موت الميت: الطبيعة أم الإنسان؟.

هو من وجهة نظر اخرى "غضب الطبيعة على الإنسان" كما قال راضي عمر، وهو مرشد سياحي يقود السياح الى تلك المنطقة.

خلال فترات متقاربة كان عمر يزور المنطقة ويرى بعينيه ما يجري للبحر. في الماضي كان يشاهد المقاهي والفنادق على البحر لكنه الآن لم يعد يشاهد الا ما تبقى من ركامها.

حتى منتصف الستينيات كان الوضع هادئا ولم يتحدث الكثيرون عن موت محقق او شبه موت للبحر، وظلت قصة الميت طبيعية وتاريخية تغلفها الكثير من حكايا الأساطير.

لكنه منذ ذلك الحين تحول البحر الى قصة ما هو أقسى من الموت لبحر يسمى "ميت".

تتضمن الكثير من الابحاث والصور الكثير من النتائج البائسة، ويبلغ حجم البحر الميت اليوم نصف حجمه في عام 1976. ويبلغ انخفاضه حاليًا 436 مترًا تحت مستوى سطح البحر.

عبر السنين استجاب البحر بشكل مباشر لكل الأسباب الطبيعية والبشرية ولم يكن قادرا على مواصلة صموده التاريخي، لكن البحر الميت كان على الدوام ضحية لصراع الطبيعة مع الإنسان.

بالنسبة للبعض يواجه البحر الميت زوالا بطيئا.

بالنسبة لآخرين، فإن الميت لن يموت معتمدين على إيمانهم بدورة الطبيعة التي ستنعشه يوما ما في المستقبل.

وهؤلاء يتحدثون عن البحر بكلام يشبه السحر لفرادته وتميزه عن كل المسطحات المائية في العالم، وقد يبدو هذا تحيزا للجمال على حساب الواقع المر.

في السنوات القليلة الماضية صاغ الفلسطينيون فلسفة سياحية جديدة، اسموها سياحة المسارات، ومنها مسار البحر الميت الذي يعمل فيه الرشايدة وافراد اخرون من عائلته.

يسمى الرشايدة على لسان بعض الاصدقاء "ملك البحر". فالمئات فعليا من كل أنحاء العالم، يترددون على مدينة بيت لحم ومن هناك ينتقلون الى القرية التي يسكن فيها الرشايدة لاخذهم برحله ليلية مخترقين سلسلة جبال واودية حتى الوصول الى المطلة، وهي المنطقة الجبلية الأعلى شرق الضفة الغربية ليراقبوا البحر.

يشاهدون بكاميراتهم واجهزة الاتصال المحمولة على حافة صخور منحدرة بشدة نهاياتها كانت في يوم من الأيام تشكل حد ماء البحر مذهولين بانتظار شروق الشمس التي ستسقط اشعتها فوق مسطحات الملح التي تلمع فوق اليابسة التي انحسر الماء عنها.

من عرشه العالي يطل الرشايدة على "مملكة الملح" تتهاوى.

"ارى البحر يصغر يوما بعد يوم" قال الشاب. في الصباحات الهادئة الصافية يمكن الاستعانة بعدسات كاميرات رقمية لرؤية امواج صغيرة تندفع الى الشواطئ الغربية من البحر.

لكن ذلك صعبا بالعين المجردة.

من كهف في الصخور المنحدرة يأوي إليه الرشايدة وزواره ليلا للنوم على سطح البحر يظهر الميت كلوحة فيروزية تتلألأ وسط صفين من الجبال: الفلسطينية والأردنية.

حقيقة ان سطح البحر الميت هو أدنى نقطة على سطح الأرض هي مسألة ثبتتها كل القواعد العلمية منذ زمن طويل، لكن مقدار ذلك الانخفاض يتم تعريفه سنويا كلما نقص البحر بمقدار متر تقريبا.

يمكن ملاحظة ذلك ببساطة من أمام صخرة PEF.

وبالعين المجردة يمكن الاستدلال كيف أنه قبل قرن كان سطح البحر اعلى من اليوم بارتفاع كبير.

لا يكف الأكاديميون والمختصون الفلسطينيون عن التنبيه من خراب البحر الميت، ويبدو ظاهريا أن الواقع أكثر قتامة من حساباتهم العلمية.

  بداية كانون الثاني 2023 زار رئيس مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين د. عبد الرحمن التميمي البحر، وهناك فوق الحصاة الملساء التي كانت يوما جزءا من عمق مائي والان اصبحت شاطئا تيقن الرجل من أن البحر ينحسر سريعا.

" انه ينحسر أكثر مما كنت اتوقع نظريا ويتناقص اسرع مما يكتب على الورق. الوضع ينذر بالخطر".

طالما كان البحر المالح حديث الماضي البعيد وطالما كان تاريخه مضطربا، وهو ما زال يشغل اليوم كبرى مؤسسات البحث العلمي.

قبل شهور قليلة أخرج مركز هيلمهولتز لبحوث الأرض (ألماني) في بوتسدام بألمانيا، نتائج بحثه الاكثر اثارة في التاريخ الحديث، والتي اعتمد على دراسة رواسب عمرها 15000 سنة من البحر كما أفاد ملخص الدراسة التي ظهرت نتائجها مؤخرا.

أشارت النتائج كما أمكن قراءتها على الموقع الالكتروني للمركز إلى أن الانخفاض في مستوى مياه البحر كان أمرا معروفا في الماضي، وهو ما حدث عندما انخفض المستوى 250 مترا كما حصل في أواخر العصر الجليدي.

إذا كان من المبالغة القول ان البحر يحتضر وهو ما لا يؤيده الجزء المتفائل من المراقبين، سيكون من الواقعية القول ان نهر الاردن المغذي الرئيس للبحر يواجه مصيرا سيئا على اية حال ولا أحد يمكن ان ينكر ذلك.

فالنهر القادم من الشمال فقد الكثير من مياهه.

حتى الخمسينيات كان نهر الأردن الفاصل الطبيعي بين المملكة الاردنية وفلسطين يتدفق بدون قيود.

يروي سكان مدينة أريحا الذين عاصروا فترة منتصف القرن الماضي كيف كان النهر عاليا وصافيا.

البحر الميت ليس حديثا بيئيا فقط.

يدمج الزوار بين الطبيعة القاسية هنا وبين قصص الماضي قصص الماضي الدينية ابتداء من مياه بحيرة طبريا في الشمال حيث سار يسوع على الماء ومرورا بنهر الاردن حيث تعمد ووصولا الى النقطة الأدنى في العالم والتي عبرها أنبياء وقديسون، وفيها وقعت آثام البشر وحل عقاب الله عليهم.

وفي عصور لاحقة كان محط أنظار الجيوش الغازية والاحتلالات لفلسطين، وكان ملح البحر ذاته احد اهداف ذلك الغزو.

بالعودة الى احتلال اسرائيل للجزء الفلسطيني من البحر فإن التاريخ يكرر نفسه بأشكال متقاربة.

ما زال الملح الذي يتكدس بعد كل انحسار يجذب الزوار من كل مكان.

كل عام في الشتاء يأتي الى هنا الاف الزوار، ومنهم من يبحث عن قطع الملح التي تصلبت لالتقاط صورها، وهو امر نادر الوجود في مسطحات مائية اخرى.

خلال سنوات طويلة اعتاد خالد حمودة وهو يدير مؤسسة لتنظيم الرحلات الطبيعية زيارة البحر الميت مرة او أكثر كل أسبوع، لأسباب كثيرة منها زيارة جبال الملح جنوب البحر.

"هذا بحر لا يشبه بحرا آخر. وشروق لا يشبه شروقا آخر، هناك اكبر جبال العالم الملحية، جبل ملحي بطول 12 كيلومترا وعرض كيلومترين". يقول حمودة.

الكثير من وصف المواطنين الفلسطينيين الذين عاصروا حلقات من سيرة البحر الميت، هي أوصاف حسابية بسيطة تقوم على سيرة الملح، لكنها ترقى الى نتائج الأبحاث العلمية الكبرى.

خلال الستين عاما الماضية عاش فتحي براهمة في مدينة أريحا التي يمكن خلال خمس دقائق عبر مركبة الوصول الى البحر الميت منها… كان براهمة أحد الشهود على ما جرى للبحر الميت وكيف تغيرت طبوغرافية المنطقة كلها.

منذ عقدين يزور براهمة الذي يشغل الآن عضوا للمجلس البلدي في مدينته وعمل لأكثر من عقدين صحافيا ومقدما للبرامج التلفزيونية بانتظام البحر مرات عديدة، وفي كل مرة يلاحظ التغييرات التي تجري على الماء واليابسة.

كان براهمه شاهدا حيا على انحسار البحر.

فبحلول منتصف السبعينيات بدا الخراب الذي يصيب أطراف البحر الميت واضحا أمام الرجل.

لقد اختفت المياه التي كانت تصل الى مسافة قريبة من أطراف الجبال الغربية وانحسرت مسافات بعيدة عنها وظهرت المناطق المهجورة التي كانت يوما تعج بالسياح.

كان من المتوقع ان يردد كل الشهود ما يقوله الآخرون عن كآبة المحيط الجغرافي الذي يحيط بالبحر.

فلا حقيقة أكثر نصوعا تفصح عنها جغرافية الشرق الأوسط أكثر من انحسار البحر، وتكون الآلاف من البلاعات الارضية التي تركت وراءها خرابا كبيرا في البنى التحتية ومزارع النخيل والخضراوات.

في ضواحي أريحا الداخلية، الحديث عن البحر، يتعدى عنه مجرد بحر يجف، الى جار طبيعي لمدينة تاريخية شهدت ايضا احداثا كثيرة عبر التاريخ، لقربها من نهر الأردن الشريان الرئيسي الذي يغذي البحر.

إن معظم الروايات عن البحر هي روايات كئيبة حزينة لكائن طبيعي فريد يتلاشى، وعلى الرغم من أن الروايات التاريخية تناولت القصص الدينية أكثر على حساب الطبوغرافية، إلا أن التاريخ الحاضر، لا يكاد يتحدث عن شيء آخر غير هذا التلاشي.

فدورة الطبيعة في هذا العصر والتبخر العالي للماء، والاستغلال الكبير للبحر من الدول التي تملك حصة فيه لموارده هما سببان حقيقيان للفقدان المستمر في مساحة وعمق البحر.

يقول محافظ أريحا جهاد ابو العسل" أريحا والميت واحدة. اريحا تتنفس من البحر".

عندما ولد من هم بجيل ابو العسل، كانت مأساة البحر الميت، بدأت بالظهور في تلك المنطقة، ولجيلين لاحقين لذلك الجيل، بدأت المأساة تكبر أمامهم سنة بعد سنة.

يشكل البحر الميت احتياطيا هائلا من الملح والبوتاس والمغنيسيوم والبروم، ويقع اللوم عليها في جذب المستثمرين الذين يأخذون ماء البحر ويتركونه جافا يوما بعد يوم.

يظهر البحر الميت اليوم الذي يمتد على مسافة 50 كيلومترا وعرض نحو 18 مترا، ينازع بين عالمين اثنين: الأول رومانسي فيه تبدأ قصص رؤية القمر المكتمل والشروق الذهبي للشمس، والثاني اقتصادي فيه تنتهي قصة العالم الأول الرومانسي يوما بعد يوم.

في فجر يوم الواحد والعشرين من كانون الثاني 2023 أشعل الرشايدة نارا أمام كهفه وتحته البحر وفوقه سماء صافية ونجوم متلألئة كما أظهر بث مباشر على صفحته في "فيس بوك".

لم يكن سطح البحر قد ظهر للتو، مع مرور الوقت، وانبلاج ضوء الصباح، أظهرت الطبيعة التي تصارع الإنسان ما أخفاه الليل.

إنه بحر ينحسر في الاسفل وأرض جرداء مقفرة في الأعلى تقع على بداية صحراء.

عند مستوى اعلى تلك الصخور التي يقف عليها الرشايدة وزواره، تظهر الجبال والصحراء خلفهم، كأنها أرض جرداء تحجب أمامها بحرا من عجائب الدنيا، لكن الصخور المتجعدة التي تتشكل شلالات صغيرة فيه خلال الشتاء تحمل المياه من الاودية.

وتحمل معها أملا صغيرا لإنعاش "الميت" يقول فرحان، "كنا نرى البحر عندما يتغير لونه بسبب الاتربة التي تحملها مياه الاودية معها. مرة كان بحرا ابيض ومرة أخرى كان أحمر".

لم يكن الانحسار الخطر الوحيد الذي يحدق بالمنطقة.

في الطرف الغربي الذي تسيطر عليه اسرائيل ظهر "الطفح" الأرضي والذي تم رصده بالأقمار الصناعية والكاميرات ايضا، وهي حفر مفاجئة تشكلت بفعل انهيارات ارضية بعد ذوبان الملح تحت المناطق الجافة.

على مدار السنوات الماضية تشكلت نحو 8000 حفرة. وتجمع أرقام متعددة، والتي تتقاطع مع ما يعتقده الباحثون أن هناك من 1 الى 3 حفر تظهر يوميا، ولدى كل من شاهد هذه الحفر المخيفة التي ترك تشكلها دمارا في البنية التحتية قصته الخاصة معها.

ومثلما جذب البحر أنظار الباحثين عن المتعة، جذبت هذه الحفرة، ايضا انظار الباحثين عن الاثارة عبر التقاط صور جوية لها.

في أحد مساءات كانون الثاني (2022)، كان الرشايدة ينظر الى جزء محدد من اطراف البحر الجافة ولم تكن هناك بالوعة (حفرة)، وفي اليوم التالي أصبحت هناك حفرة كبيرة.

لم يستطع تقدير حجمها بالضبط لكنه قال إن" قطرها ربما 15 مترا".

في المرة الاولى التي شاهد فيها فرحان هذه الحفر التي تتشكل، تذكر أحاديث أجداده عنها قبل عقود من الزمن عندما كانوا يهبطون لجلب الملح من الاسفل لعلاج مواشيهم.

أما آخرون من زوار البحر، فاعتقدوا ساخرين أن نيزكا ضرب الأرض وشكلها، فيما وصفها آخرون شاهدوا صورها التي التقطت من اعلى بأنها طفح جلدي أصاب منطقة الجفاف على أطراف البحر الميت.

وهي بالنسبة لمرشدين سياحيين كارثة كبيرة حلت على المنطقة.

اليوم، تدرك المؤسسات البحثية التي تعنى بالمسطحات المائية، ان المشكلة اكبر من كل تلك التوصيفات.

إنها مشكلة ترقى إلى حدوث كوارث أكبر من نتائج الزلازل ذاتها.

ولفهم خارطة الزلازل الكثيرة حول البحر الميت، كان لا بد من رصد عدد الزلازل التي ضربت المنطقة في عامين فقط.

فعليا، البحر الميت مركز لتكون الزلازل.

وقد أخبر باحثون في مركز رصد الزلازل في جامعة النجاح في مدينة نابلس مراسل "وفا"، ان 228 هزة ارضية تتراوح قوتها بين 0.7 الى 3.6 درجة على مقياس ريختر في آخر عامين.

تجسد التقاليد اليومية لزوار البحر الميت، الطريقة الاكثر اثارة للسباحة في المسطحات المائية في العالم، وهي أن يستلقي الزائر على ظهره فوق الماء الذي تكفل كثافته أن تجعل السائح يستلقي على الماء مع فنجان عصير او كتاب للقراءة.

فنسبة الملح في ماء البحر هي تقريبا عشرة أضعاف النسبة في المحيطات.

وإذا كان هناك شيء مهم اخر عن البحر، يعتقد به زوار "الميت"، هو أنه لا يمكن الغرق فيه.

مستلقيا على ظهره فوق الماء، مع ابتسامة واضحة، قال شاب باللغة الانجليزية: "انا استلقي على ظهري. امر عجيب. لكنهم يقولون إن كل هذا سيختفي". وعندما سئل ماذا يقصد قال "هذه كارثة من صنع الإنسان".

بعد الخروج من الماء يغطي الزوار أجسادهم بالطين وهو العلاج الطبيعي الأكثر شهرة في أسواق العالم، والمعروف عالميا بطين البحر الميت.

ان مشهد اجساد ملطخة بالطين من أخمص قدميها الى رأسها، امر طبيعي هنا، فالناس يأتون لهذا السبب، والشركات الاستثمارية على كلا جانبيه تجني الأرباح من الطين.

ويتردد صدى ذلك كما يمكن مشاهدته على شكل صور اعلانات المستحضرات الخاصة بالبحر في كل أنحاء العالم.

وفقًا للتقرير الذي نشرته على صفحتها Allied Market Research، وهي شبكة توزيع بيانات مالية عالمية مقرها في بورتلاند بالولايات المتحدة، فقد حقق سوق مستحضرات التجميل العالمية من طين البحر الميت 723.00 مليون دولار في عام 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى 2.6 مليار دولار بحلول عام 2031 ، ويشهد نموًا سنويًا مركبًا من 13.5٪ من 2022 إلى 2031.

امام هذه الارقام، تظهر خسارة الفلسطينيين المستمرة من استحواذ اسرائيل على حصتهم من البحر، وأكثر ما يفعلونه الآن، هو التقاط صور من بعيد للبحر، أو الوصول بصعوبة بالغة مقيدين بإجراءات امنية اسرائيلية الى بعض شواطئه في الشتاء الدافئ هنا، او في مساءات الصيف.

انه يوم اخر، من ايام قاع العالم، في فصل الشتاء، لا مطر ولا رطوبة، وصباح مشمس للغاية، مثل اي صباح عادي هنا، تمر سيارات كثيرة على الطريق المسمى (90) وتقطع شرق الضفة الغربية مرورا بأطراف البحر التي تبتعد يوما بعد يوم.

في بعض الأيام، يلوذ التشاؤم قليلا عن ضيوف البحر الميت ومراقبيه الذين يطلون عليه من أعلى، عندما تفيض مياه الامطار الرعدية عبر اودية القدس وبيت لحم مرورا بقرية الرشايدة والأودية التي يقطعها هو ومجموعاته من السياح، وتغذي البحر لتعطي املا قليلا بحياة جديدة لـ"الميت".