
حجم حركة حماس والتضخيم الإعلامي
11 نوفمبر, 2023 04:58 مساءً
حميد قرمان
رام الله - ما زال الإعلام العربي يعيد تفريخ نماذج التضخيم والتضليل الإعلامي في وقت الحروب والأزمات، كالمذيع أحمد سعيد؛ كبير مذيعي إذاعة صوت العرب، الأشهر زمن حرب عام 67، إحدى أقسى الهزائم العربية في القرن العشرين. مثال آخر هو وزير إعلام نظام صدام حسين محمد سعيد الصحاف الذي برع في تقديم نموذج إعلامي قائم على تعظيم الذات، وتضليل الشعوب العربية بوهم القدرات العسكرية والعناصر المزودة بالإستراتيجيات والخطط التي تهزم وتضعف العدو وتظهر هوانه وخذلانه. وحين سقطت بغداد عاصمة العراق على مر العصور، سقطت عقولنا في مستنقع السذاجة السياسية التي صنعها محمد سعيد الصحاف بمصطلحاته ومفرداته.
اليوم، والحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة مستمرة، يعيد بعض الإعلام العربي صناعة وتفريخ نماذج التضخيم والتضليل الإعلامي لتصب في صالح أجندات سياسية لدول في الشرق الأوسط، صناعة أصبحت جلية للمتخصصين في مجال الإعلام ومحللي السياسة، تنتج نماذج تبرع في إنتاج توصيفات وشروحات ومصطلحات تتلاعب بعقول الشعوب العربية، التي تنساق بعاطفة “الإرث الانهزامي” لتصديق ما يقال لها في عملية غسيل ممنهحة للعقل العربي الجمعي، فيتحول الكائن إلى مارد، والحركة إلى جيش كبير.. فلا يبقى المارد، ولا يصمد الجيش الكبير.
المقال يلقي الضوء على ما تقدمه إحدى القنوات الفضائية المدعومة من دولة خليجية صغيرة المساحة، من طرح إعلامي قائم على تضخيم وغُلوّ قدرات حركة حماس من خلال مراسليها ومحلليها السياسيين والعسكريين، فحولت الحركة إلى كيان يوازي قوة الاحتلال ذي القدرات العسكرية الهائلة والمدعوم من الولايات المتحدة.
وما زال هذا الطرح مستمرا ضمن منهج وسياق سياسي متعدد.. لنفاجأ بين يوم وليلة أن شمال قطاع غزة سقط بيد جيش الاحتلال، وأن القوة العسكرية البسيطة والمحدودة التي بيد حركة حماس لم توقف الأرتال الإسرائيلية المدرعة ومشاتها، التي أصبحت تتمركز داخل القطاع في عدة مناطق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتصاعد حركة النزوح نحو الجنوب، ليس خوفا بل سأما من حرب فرضت على المواطن الفلسطيني في القطاع، والذي أدرك الحقيقة بأنه وحده ضحية مغامرة غير محسوبة من حركة حماس التي لا تملك مقومات الصمود إلا عبر خطب إعلامية وتلفزيونية لأصنام ملثمة تارة، ومترفة تتنقل في عواصم عربية تارة أخرى، تتحدى الإجرام الإسرائيلي المتسلح بدعم غربي بالشعارات والكلمات الجوفاء، خاصة بعد ارتجاف ما يسمى محور المقاومة وسيده ومرشده الأعلى -أدام الله ظله- أمام الأساطيل الأميركية والبريطانية التي هبت تظهر قوتها واستمرار سيطرتها في المنطقة.
بالعودة إلى الطرح الذي لا علاقة له بمساقات الإعلام ونظرياته، بقدر ما له علاقة بسياسة الدولة التي تحتضن القناة وخططها الإعلامية، لتسخرها كقوة ناعمة في خدمة أجنداتها القائمة على طي الوعي والإدراك العربي بما يتناسب مع مصالحها الساعية لخلق “فراغات حكم” تملأها عبر سلطتها ونفوذها السياسي والمالي على جماعات الإخوان المسلمين على امتداد دول الشرق الأوسط من خلال منحها -أي الجماعات- شعبية متضخمة عبر وسائل إعلامها. شعبية لا تتناسب وإمكانيات وقدرات هذه الجماعات، تماما كما حصل في مصر إبان حكم محمد مرسي وجماعته بعد أن سوقت “الدولة وقناتها” لثورات الربيع العربي، وخلقت فراغات سياسية بإسقاط النظام القائم. فساهمت بتمهيد الطريق لوصول الإخوان إلى سدة الحكم، لينهاروا بعد أن بان حجمهم الطبيعي الذي لم يستطع التعاطي مع إدارة الدولة والتحديات التي وجدوا أنفسهم أمامها، فاندثروا كالرماد في مهب ريح الجيش والدولة المصرية العميقة.
اليوم يعاد هذا الطرح مجددا مع حركة حماس بحذافيره وتفاصيله من قبل ذات “الدولة وقناتها”، التي تبرع في خلق حالة التضخيم الإعلامي والسياسي لإظهار وزن الحركة وحجمها وقوتها من خلال تقديم توصيفات وشروحات بعيدة تماما عن واقع الحرب الدائرة وميدانها، فالمأساة ليست فقط الحرب وأهوالها وضحاياها، بل بارتدادات الدمار وما سينتج عنه من تحديات حقيقية، ستقف أمامها حركة حماس عاجزة في توفير سبل الدعم والإمكانيات لإعمار القطاع وتسيير شؤونه. فالشعب الفلسطيني بدأ ينفض من حول الحركة التي تركته وحيدا أمام آلة القتل الإسرائيلية بعد أن انكشف حجمها ومحدودية قدراتها.
شواهد كثيرة بدأت تطفو على السطح تدلل على تلاشي نفوذ حماس في القطاع.. فالحاضنة الشعبية التي تغنت بها وهما قيادات الحركة أصبحت تطالب اليوم بمحاسبة حماس، تحت عنوان واضح: بأن حركة حماس لم تكن مستعدة للحرب، ولن تكون قادرة على معالجة ما بعدها.