يوهانا بونغر: المرأة التي قدَّمتْ فان غوخ للعالم

21 مايو, 2023 07:21 مساءً
القدس عاصمة فلسطين/ دولة فلسطين

رام الله-في الصفحة الأولى من دفتر يومياتها، قررت الشابة يوهانا بونغر نسخ سطرين من قصيدة الشاعر الأمريكي هنري وادزورث لونغفيلو: «إن تصرفاتنا في كلَّ غد / تجعلنا أبعد من اليوم». وفي يومياتها غير المنشورة التي بدأت بكتابتها في أمستردام اعتباراً من 26 مارس/آذار1880 وحرَّرتْها الباحثة الإيطالية المهتمة بشؤون الفن مارييلا غوزوني تذكر يوهانا: «اليوم أبدأ بكتابة يومياتي، كنتُ أسخر من الأشخاص الذين يفعلون ذلك، لأنني اعتقدتُ أن كتابة اليوميات حماقة، ففي الروتين اليومي هناك القليل من الوقت للتفكير، وأحياناً تمرُّ الأيام عندما لا أعيش بالفعل، أعتقد أنه من غير المعقول أن أقول في نهاية حياتي: لقد عشتُ حقَّاً من أجل لا شيء ولم أحقق شيئاً عظيماً أو نبيلاً، ومع ذلك أعتقد أن شيئاً كهذا يمكن أن يحدث». على غرار العديد من معاصريها، كانت بونغر مصمِّمةً على اختبار مشاعرها من خلال الكتابة، فكتبت مجموعة من أربع مُدوَّنات وثقت من خلالها يومياتها. في وقت مبكر من حياتها عشقت الموسيقا، المسرح والأدب، وأُعجِبتْ بالكاتبة الفرنسية جورج إليوت التي اعتبرتها امرأة متفوقة.
لتطوير مهاراتها في اللغة وفي تموز/يوليو 1883 سافرت مُدَرَّسة اللغة الإنكليزية إلى لندن لقضاء بضعة أشهر، هناك شرعت بتدوين (يوميات 2) بعد زيارتها لرُكن الشاعر في دير وستمنستر وأدهشتها البساطة التي كان عليها ضريح تشارلز ديكنز، كما استغلت فرصة وجودها في لندن لقراءة أعمال رائد الشعر الرومانسي جورج غوردون بايرون «لورد بايرون» ولاسيما النشيدين الأول والثاني من «أسفار شيلد هارولد» كما قرأت العديد من مقالات الكاتب الاسكتلندي توماس كارليل وأثَّرت بها مقولته: «لا يعيش أي عظيم دون جدوى، فتاريخ العالم ليس إلا سرداً لسيَر العظماء». غالباً ما ذهبت يوهانا أيضاً لمشاهدة المسرحيات، فعندما شاهدت سارة برنار على خشبة المسرح في فيدورا، لم تتأثر بذاك العرض المسرحي فكتبتْ: «إنها امرأة جميلة، ترتدي ملابس رائعة، سارة برنار فتاة ساحرة لكنها ليست مليئةً بالفن الراقي كما أود أن أُسمّيها!» بالنسبة ليوهانا لم تكن سارة برنار نموذجاً يُحتذى به للفن الراقي. (يوميات 2، ص 9).
كانت في السادسة والعشرين عندما قدَّمها شقيقها أندريس لصديقه المقرب تيو فان غوخ، بعد عدة لقاءات، جذبتْها رومانسيته، فقررا الزواج وأسَّسا منزلاً في باريس. لم تكتُبْ في تلك الفترة لمدة ثلاث سنوات، ولم تحتفظ سوى بالرسائل التي تبادلتها مع تيو كموجز لسعادة مؤقتة! بعد ذلك بوقت قصير، تراسلتْ أيضاً مع فينسنت فان غوخ، ومن خلال تلك المراسلة اختبرتْ زواجها فأجابها فينسنت برسالة ذكر فيها أن زواجها من شقيقه تيو كان: «أجمل ما يمكن أن يحلم به شخصيا» (يوميات 3، ص 137). بعد زواجها من تيو مر زواجهما بجملة من الأحداث غيَّرتْ مسار حياتها، ففي ليلة عيد الميلاد 1888 سافر تيو على عجل إلى آرل- جنوب فرنسا- بعدما وصلته رسالة من هناك تخبره بأن فينسنت قطع أذنه ودخل المستشفى، الأمر الذي أثر بيوهانا كثيراً، نظراً لارتباطها بزواج تيو من يوهانا، لكن كيف؟ يفسر ذلك الأكاديمي مارتن بيلي: «هناك أدلة تشير إلى أن فينسنت فان غوخ قام بقطع أذنه، بعدما ربط بين زواج أخيه -الذي كان يدعمه بانتظام مادياً ومعنوياً- وتَوَقُّفه عن مراسلته ودعمه، مما حدا بفينسنت بأن يقطع أذنه كرسالة شديدة اللهجة إلى تيو». إلا أن الدليل الذي ساقه مارتن بيلي كان قريباً جداً من الحقيقة فقد أكمل فينسنت فان غوخ البورتريه الذي بدأ برسمه نهاية عام 1888 والذي سيظهر به بداية عام 1889 -أي بعد مضي شهر على حادثة قطع الأذن- لكن ما لاحظه بيلي كان قريباً من الحقيقة، ففي البورتريه يبدو ظرف رسالة على طاولة غرفته في «المنزل الأصفر» فَحَصهُ بيلي ميكروسكوبياً فوجد رقم 67 داخل دائرة، مبرراً ذلك بأن الرقم 67 جزءٌ من عنوان شقة تيو في باريس – مونمارتر. الحدث الذي تلا ذلك كان انتحار فينسنت فان غوخ سنة 1890 مطلقاً النار على صدره، أما الحدث الأكثر مأساوية فكان الوفاة المُفجعة لزوجها تيو بعد إصابته بمرَضَي السحايا والزُهري من الدرجة الثانية ثم وفاته في 25 كانون الثاني/يناير 1891 أي بعد ستة أشهر من انتحار فينسنت، تاركا يوهانا مع طفلهما فينسنت (الصغير). بعد كل تلك الصدمات التي أتت تباعاً، وجدت يوهانا نفسها وحيدةً في شقة باريس محاطةً بعبء هائل: مئات اللوحات محشوةً أسفل الأسِرَّة، الكثير من السكيتشات، أكوام من الرسائل، وطفلٌ صادف عيد ميلاده الأول بعد أسبوع واحد فقط من وفاة والده.
بعد وفاة فينسنت وتيو، وفي رسالة إلى صديقتها، كتبتْ يوهانا عن الرسائل المتبادلة بين فينسنت وتيو: «لقد احتلت الرسائل مكانةً كبيرةً في حياتي، وذلك منذ بداية مرض تيو. في أول أمسية قضيتها بدونه في منزلنا، وبعد عودتي، أخذتُ حزمة الرسائل وبدأتُ بقراءتها مساء بعد مساء، كنتُ أعلم أنني سأجدُ فينسنت فيها مرةً أخرى، كان ذلك عزائي الوحيد بعد الأيام البائسة. لم يكن فينسنت من بحثتُ عنه ولكن تيو. لقد شربتُ في كل كلمة، واستوعبتُ كل التفاصيل. قرأتُ الحروف بقلبي، وأعدتُ قراءتها حتى رأيتُ شخصية فينسنت أمامي بوضوح، وهكذا بقيتُ طوال الوقت. تخيَّلْتُ ما ستكون عليه تجربتي عندما عدتُ إلى هولندا وأدركتُ نبل حياة ذلك الفنان الذي كان وحيداً، تخيَّلتُ خيبة أمله من اللامبالاة التي أظهرها الناس له. في بعض الأحيان جعلني ذلك حزينةً جداً. أتذكرُ كيف خرجتُ العام الماضي في يوم وفاة فينسنت: في وقت متأخر من المساء، هبَّت الريح، وأمطرَتْ، وكان الظلام شديداً، رأيتُ نوراً داخل كل البيوت، رأيتُ تَجَمُّع الناس حول المائدة، شعرتُ بأسى شديد لدرجة أنني فهمتُ للمرة الأولى ما شعر به فينسنت في تلك الأوقات عندما ابتعد عنه الجميع، وعندما شعر كما لو لم يكن له مكان على الأرض. إنكِ لا تعرفين مدى تأثير فينسنت على حياتي. لقد كان الشخص الذي ساعدني على استيعاب حياتي بطريقة تجعلني في سلام مع نفسي. الصفاء، نعم الصفاء، كانت تلك كلمته المفضَّلة، الشيء الذي اعتبرهً فينسنت الأعلى، وجدتُ الصفاء منذ ذلك الشتاء. عندما كنتُ لوحدي، لم أكن حزينةً، لا بل حزينةً ولكن دائماً مبتهجة، كان ذلك أحد تعابيره، التي صرتُ أفهمها الآن».
عادت يوهانا إلى هولندا كأرملة شابة في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام. عادت إلى الكتابة مرةً أخرى: «يجب أن أستغل كل قوتي للتعلُّم مرةً أخرى حتى أكون مفيدةً لفينسنت الصغير» (يوميات 3، ص 138- 139). افتتحتْ منزلاً داخلياً لكسب لقمة العيش لكليهما في مدينة بوسوم شمال هولندا – هناك ستبدأ في نسج شبكة العلاقات، كانت تعمل مثل العنكبوت المجتهد، تحاول التواصل مع النُقّاد والرسامين والكُتّاب أو أي شخص يمكن أن يساعدها في الحصول على تقدير لعمل فان غوخ في بلدها هولندا الذي لم يُظهر في البداية أي تقدير لفنه.
بعد ثلاثة أشهر فقط، شهد شهر شباط/فبراير 1892 تقدماً مهماً، فقد انتظرت يوهانا بفارغ الصبر ردود فعل الجمهور على «جلسة تقدير الفن» التي عقدتها مجموعة Arti et Amicitiae (الفن والصداقة) والتي ضمَّتْ فنانين مؤثرين في مقرها بأمستردام. يتحدث فينسنت فان غوخ الصغير عن تلك الفترة: «على الرغم من أن والدتي كانت مشغولةً بتدبير منزلها، إلا أنها انشغلتْ بي كثيراً، لقد حافظتْ على فترة بعد الظهر خاليةً من أجلي، كان الزوار يأتون من وقت لآخر لمشاهدة اللوحات، تزايد عدد المعارض باستمرار، ومُنِحتْ والدتي الكثير من العمل. بما في ذلك صنع الحقائب لسنوات عديدة في المنزل، كما شكَّلتْ والدتي آراءها بشكل مستقل، وبالتالي انحرفتْ أفكارها بين الحين والآخر عن أفكار عائلتها وانتسبت إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي(SDAP سَلَف حزب العمال). كان للحزب فرع في بوسوم وشاركت فيه بقوة مدافعةً عن حقوق المرأة. خلال صيف عام 1905 أقيم معرض كبير لأعمال فان غوخ في متحف بلدية أمستردام. كانت والدتي قادرةً على استئجار صالات العرض لهذا الغرض، وفي غضون شهرين كان هناك ألفي زائر.»
عام 1915 سافرت يوهانا إلى سويسرا لحضور المؤتمر الاشتراكي الدولي من أجل حقوق المرأة في العاصمة بيرن، وفي عام 1917 وبينما كانت في الولايات المتحدة، ذهبتْ إلى مؤتمر عَقَدَهُ ليون تروتسكي. لم تكن الثروة تَهمُّها، كان لديها مهمةٌ وحيدة: تقديم أعمال فان غوخ للعالم وذلك لإكمال المهمة التي بدأها زوجها، نجحتْ في هذا المسعى باستخدام ذكائها الاستراتيجي: فعرضت أولاً أعمال فان غوخ، ثم مراسلاته مع تيو، والتي نشرتها عام 1914 باللغتين الهولندية والألمانية. وهو ما جعلها على اتصال بأشخاص آخرين. لكنها لم تشارك في الحياة العامة، بل كرَّستْ نفسها لي». على مدى السنوات العشر الأخيرة من حياتها، كانت يوهانا تعمل بثبات على تنظيم رسائل فينسنت إلى تيو بترتيب زمني متوخيةً الدقة الشديدة لأن الكثير من تلك الرسائل لم يحمل تاريخاً صريحاً، فمن غير الممكن تحديد التسلسل إلا عن طريق مقارنة الحقائق أو المراجع، في البداية نَسختْها يدوياً، ثم كَتبتْها على الآلة الكاتبة بعد أن ربطت كل تلك الرسائل ببراهين أثبتتْ دِقتها. نُشر المجلد الأول من الطبعة الهولندية للرسائل في ربيع عام 1914. وفي عام 1915 انتقلت إلى نيويورك، هناك بدأت في بترجمة رسائل فينسنت إلى الإنكليزية. وعند وفاتها، في 2 أيلول/سبتمبر 1925 وصلت يوهانا إلى الرسالة رقم 526. وفي يوم دفنها، أرسل مديرو «المكتبة العالمية» وناشرو الطبعة الهولندية من الرسائل، إكليلاً من الزهور مع نقش كُتِبَ فيه: «الإخلاص، الإخلاص، الحب.»
باحتفاظها بأعمال فان غوخ ورسائل فينسنت إلى أخيه تيو، نقلت يوهانا بونغر للعالم كيف يختزل الفنان الظروف الفردية ويحوِّل المواصفات الثابتة إلى أفق متحرك، وأظهرت لوحات غوخ على أنها ليست نتاج أسطورة النصر في الهلاك، بل خلَقتْ بذهنيتها العالية اتصالاً مستمراً بلوحاته ورسائله، فكانت خير وريثة وهبت حياتها لِتَرِكة فينسنت المهمة، ولا سيما السكيتشات التي رسمها مع كلمات الرسائل وصدى نقاشاته وضحكاته مع بول غوغان في «البيت الأصفر» والاثنتي عشرة لوحة لعباد الشمس التي اختلفت حجومها بينما نبضت كل واحدةٍ منها بشهر من أشهر السنة لتجمِّعَ الوقت بألوانه وريشته، تنشر موسيقا البيانو في لوحة الآنسة مارغريت غاشيه، وتضيف شمساً أخرى للجنوب الفرنسي يتلألأ ضوؤها باستمرار على قبرين متجاورين لفينسنت وتيو في أوفير.

كلمات مفتاحية

الأخبار

فن وثقافة

المزيد من الأخبار